دعوة مفتوحة إلى حفلة احتلال تنكريّة
نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن في بغداد (ليشرف على مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية التي قد تستغرق قرناً). ووزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس وصل هناك صباح اليوم في زيارة مفاجئة للمشاركة في الطقوي الاحتفالية. مساء أمس وجّه أوباما خطاباً إلى الشعب الأمريكي من مكتبه في البيت الأبيض وهو تقليد مهم في السياسة الأمريكية وهي المرة الثانية فقط التي يستخدم فيها أوباما هذا المنبر بالذات. والمناسبة هي “الاحتفال بانتهاء المهام القتالية في العراق.” والخطاب السياسي المستخدم لتسويق هذه المناسبة وتبعاتها يستدعي وقفة لتبيان ما يتم تسويقه وتعليبه بأغلفة جديدة ربما بهدف تغيير مدة صلاحيته وأبقائه على الرف السياسي دون أن ينتبه البعض إلى ذلك. ولعل من العسير ألا يتذكر المرء واحداً من أكبر حماقات بوش الإبن وإدارته بقيامها بتنظيم عرض كبير أعلن فيه بوش يومها انتصار الولايات المتحدة في حربها وليس سرا ما تبع ذلك من معارك دامية بين الجيش الأمريكي وكل القوى التي حاربته في العراق لسنين طويلة. قد يقول قائل بأن عهد بوش قد ولّى وبأن صفحة جديدة فُتِحَت مع أوباما. لكن أوباما ما فتيء يستعير من سبقه ذات الممارسات أو يكررها، خصوصا فيما يتعلق بالشرق الأوسط والسياسة الخارجية. وإن كان أوباما قد بدأ خطاب أمس بموضوع العراق فإنه خصص جزء لا بأس به منه للحديث عن التحدّيات الاقتصادية التي يواجهها المجتمع الأمريكي. ولا شك في أن الخطاب يصب في محاولات أوباما إنقاذ شعبيته المتقهقرة وكذلك حظوظ الحزب الديمقراطي في الانتخابات القادمة. أما العراق ومأساته المستمرة فهما أصبحا، ومنذ زمن، من ضمن الموضوعات الهامشية في الحيّز العام في أمريكا وفي النقاشات السياسية.
وبذلك فمن السهولة بمكان إعادة تعليب الاحتلال الأمريكي للعراق بصيغة يمكن تقبّلها من مجتمع لم تعد لدى غالبيته القدرة أساساً ولا الرغبة في متابعة الأحداث والحقائق السياسية أو إجراء قراءة نقدية بسيطة لما يدور حوله ولسياسات حكومته.السائد هو التبسيط والتسطيح واختزال العالم والحقائق إلى عبارات طنّانة تخدّر العقل وتشل قدرته النقدية الكامنة. يكفي هنا أن نذكر، مثلاً، بأن خمس الأمريكيين يعتقدون بأن أوباما مسلم. فكيف الحال إذا في مواضيع مثل حروب العراق وأفغانستان وفلسطين. والتي يسهل تبسيطها واختزالها واختزال تاريخها وتعقيداتها بفضل العنصرية والاستشراق الجديد والجهل.
بعيداً عن الخطاب الاحتفالي وكلام المالكي السخيف عن السيادة (ألم يتم نقل السيادة من قبل في عهد بريمر؟ يبدو أن كميات السيادة هائلة كي نظل نسمع عن انتقالها وتسليمها) فلا يزال هناك ما يقارب ٥٠ ألف جندي أمريكي في العراق، كما أن هناك الكثير من القواعد والمنشآت الأمريكية التي ستظل فعّالة أو مهيأة للاستخدام عند الضرورة. ومهمة القوات الأمريكيّة المتبقيّة تسمح لها بشن هجمات “مضادة للإرهاب” والكل يعرف مدى مطاطية مصطلح الإرهاب في عالم مابعد الحادي عشر من إيلول. وإذا ما كان عدد القوات الأمريكية النظامية قد انخفض إلى أقل عدد له منذ بداية الاحتلال فهناك الآلاف من المسلحين الذين يعملون مع الشركات الخاصة التي ستزداد أهميتها مع إسناد مهام جديدة لها. والسفارة الأمريكية في بغداد هي الأكبر في العالم وحجمها يعادل الفاتيكان. قد يقول قائل بأن كل هذا لا يهم مادامت القوات الأمريكية ستنسحب نهاية العام القادم. لكن الهمس السياسي في بغداد وواشنطن يقول بأن الحكومة العراقية الجديدة ستطلب من الولايات المتحدة أن تمدد وجودها العسكري لحماية النظام السياسي في العراق ومالحها الاستراتيجية بالطبع. سأل أحد الجنود الأمريكيين وزير الدفاع غيتس عن احتمال احتفاظ الولايات المتحدة بوجود عسكري بعد ٢٠١١ فكان جوابه بأن هذا يعود للحكومة العراقية الجديدة و” نحن بالطبع سنكون مستعدين للنظر في هذا الطلب.” هناك ما يكفي من الذرائع والحجج للحكومة العراقية كي تطلب تمديد الاحتلال ولا أظن بأنّ الولايات المتحدة ستكون من الجحود بأن ترفض هكذا طلب، خصوصاً أن أكثر من ثلثي عقود استثمار حقول النفط والامتيازات كانت من حصة الشركات الأمريكيّة الكبرى ويمكن أن نضيف إلى ذلك البعبع الإيراني الذي يستخدم هذه الأيام كغطاء للكثير. إذا فالدعوة مفتوحة سلفاً. والاحتلال مستمر ولكن بزي جديد.